رهوان... أغنية الحبّ والحرّيّة | حوار مع هيا زعاترة

الفنّانة هيا زعاترة

 

* ثمّة شعور وهميّ بالأمان داخل مساحاتنا الضيّقة. 

* الاغتراب الشخصيّ لا ينفصل عن السياسيّ والمكاني. 

* ’عشتار‘ تمدّني بالقوة اللازمة لأتكلّم بوضوح. 

 

أطلقت المغنّيّة والملحّنة هيا زعاترة ألبومها الأوّل بعنوان «رهوان»، ويشتقّ الألبوم اسمه من عائلة جدّة جدّها ’نظيرة رهوان‘. يتكوّن الألبوم من 9 تسجيلات تتجاوز تعقيدات التاريخ والزمن والجغرافيا الشائكة وتكرّم أجيالًا من النساء والأمّهات. أُطْلِقَت الأغنية الأولى «قالولي» في أواخر عام 2021، في حين أُطْلِقَت الأغنية الثانية «عشتار» في شباط (فبراير) 2022، والّتي تتناول أفكارًا حالمة عن الحبّ والحرّيّة غير المقيّدين بالمعايير الّتي تلغي التعدّديّة والتنوّع.

كانت زعاترة قد تعلّمت العزف والموسيقى بشكل ذاتيّ، وهي مهندسة معماريّة بدأت عملها في الموسيقى بأغنيتها الشهيرة «مناكير» والّتي ظهرت في ألبوم «غنيّ عن التعريف» الّذي ساهمت فيه مجموعة من الفنّانين والفنّانات الفلسطينيّين، وكانت الأغنية قد ظهرت في مسلسلة «مدرسة الروابي» (2021).

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع زعاترة، نتحدّث معها عن تجربتها الموسيقيّة، وألبوم «رهوان» وما يحمله من قصص شخصيّة وجمعيّة وأفكار عن الحرّيّة والحبّ والتعدّديّة الجندريّة. 

 

فُسْحَة: مَنْ تكون ’رهوان‘؟

هيا: ’رهوان‘ هو اسم عائة جدّتي، نظيرة رهوان، الّتي عاشت بين دمشق وحيفا والناصرة، وهي شخصيّة لم أعرفها من قبل لأنّها توفّيت في بداية سبعينيّات القرن الماضي، وكنت وجدت، مصادفة، جواز سفرها البريطانيّ الّذي كُتِبَ عليه: "دولة فلسطين"، وقد جذبني التخيّل المرتبط بحرّيّة الحركة في ذلك الوقت. جذبتني سيولة عبور الحدود في الماضي، والفجوة بين تلك الإمكانيّة الّتي أُتيحَت لجدّتي ولم تُتَحْ لي. هذه هي نظيرة رهوان، الّتي لم أعرفها شخصيًّا، لكنّني استخدمت اسمها لوصف حالة جغرافيّة تتّسم بسيولة الحدود على بعضها البعض.

 

فُسْحَة: ولماذا اختيارها عنوانًا للألبوم؟

هيا: أوّلًا لأنّها امرأة؛ فثمّة احتفاء في الألبوم الّذي يبدو وكأنّه يتكلّم كثيرًا عن النهايات والفقدان، لكن ثمّة احتفاء بالشخصيّات النسائيّة سواءً كانت جدّتي نظيرة رهوان أو جدّتي باسمة الّتي كتبت عنها أغنية «فتنة وياسمين»، وكان مهمًّا بالنسبة إليّ أن أعزّز مكانة هذه الشخصيّات لحضورهنّ الكبير في حياتي، أن أمنحهنّ الألبوم الأوّل الّذي أنتجه.

 

فُسْحَة: ثمّة بعض الغرابة في أغنية «رهوان»، كلماتها قليلة جدًّا وغامضة بطريقة ما كأنّ فيها بعض البدائيّة الصوتيّة... مَنْ هنّ ’البنيّات‘ وإلى أيّ بلاد هنّ آتيات كما تتخيّليهنّ؟  

هيا: «رهوان» هي مقدّمة الألبوم، وهي الأشياء الّتي حدثت قبل أن أوجَدْ. يبدأ ظهوري في الألبوم بشكل أكبر مع أغنية «قالولي»، لكن في «رهوان» أتخيّل نساءً برفقة جدّتي نظيرة يأتين إلى البلاد، وكم كان ذلك الخبر عاديًّا في الماضي، لكنّه ليس كذلك في الحاضر. من ناحية بصريّة، أتخيّل بلادنا في ذلك الوقت بشكل مختلف، خاصّة وأنّني درست الهندسة المعماريّة، أتخيّل ما كان موجودًا من بنيان وعمران، وما لم يكن، أتخيّل البناء الفلسطينيّ والشاميّ وحتّى العثمانيّ، وكذلك أتخيّل الصعوبة. لا أفكّر بالأمر بشكل رومانسيّ فحسب، أعرف أنّ ذلك الزمن كان قاسيًا، وأنّ التنقّل لم يكن سائلًا كما أحبّ تصوّره، لكنّني أتخيّل الرحلة بين الشام وفلسطين بصريًّا وأتخيّل أشجار التفّاح على جانبيّ الطريق الّتي تحدّثت عنها جدّتي، وهذه المنطقة ما بين الطبيعة والمدينة جذّابة بالنسبة إليّ. «رهوان» هي مقطوعة أكثر منها أغنية، مقطوعة تشدّني إلى مكان بصريّ أكثر من أيّ شيء آخر.

 

 

فُسْحَة: ثمّة في الألبوم وفي «رهوان» تحديدًا، ما يمكن القول إنّه بداية تأسيس لسرديّة نسويّة حول أجيال متتالية من النساء منذ عام 1900 تقريبًا وحتّى اليوم؛ ما هي عناصر هذه السرديّة؟

هيا: تبدأ هذه السرديّة بالظهور في مقطوعة «رهوان»، ومن ثمّ تتصاعد في أغنية «قالولي» الّتي أتحدّث فيها عن المواجهة مع السلطويّة الأبويّة، وفي النهاية تصل ذروتها في أغنية «عشتار». أعتقد أنّ ثمّة الكثير من الخيال في الألبوم ما يجعلني أتساءل عن مدى واقعيّة الصورة الحاضرة في عبارة: "ماشيات البنيّات... ع بلادي آتيات"، وهنا يظهر أنّ ثمّة تشابهًا ما بين شخصيّة نظيرة رهوان، الّتي فيها بعض الأسطورة، وما بين شخصيّة ’عشتار‘ الإلهة الأنثى، لكنّه أيضًا مزج ما بين السماويّ والأرضيّ في الشخصيّة الأنثويّة، أو بين المقدّس والأرضيّ، ومزج ما بين واقع البلاد وصورتها المشتهاة.

 

فُسْحَة: أعتقد أنّ ثمّة توازيًا ما بين ’عشتار‘، الإلهة الأنثى الّتي هزمها الإله اليهوديّ الذكر – يهوه – وما بين نظيرة رهوان، الأنثى الأرضيّة، في إشارة لإرادة نسويّة ترغب في إعادة خلق العالم بصورة مختلفة...

هيا: أتساءل عن فكرة الهزيمة، ولا أعتقد أنّ ثمّة توازيًّا بقدر ما ثمّة تمازجًا في تركيبتنا؛ فنظيرة رهوان حاضرة في عشتار والعكس صحيح، وأنا فيّ بعض من عشتار ومن نظيرة ومن جدّتي باسمة. نحن البشر مركّبون، فينا البشريّ وفينا المقدّس، أو الإلهيّ، وأعتقد أنّ سرديّة الألبوم تكرّس هذا التركيب ولا تفصل الأجزاء عن بعضها البعض، ولا تضعها في مقارنة، بل تقول إنّ ثمّة إمكانيّة لأن نكون على هذا القدر من التركيب والتمازج.

 

فُسْحَة: على مَن يعود الضمير في أغنية «قالولي»؟

هيا: يعود على المدرسة، والمجتمع، وعلى شريحة مجتمعيّة معيّنة أعود إلى مخاطبتها بشكل دائم في لازمة الأغنية الّتي تقول: "وحدود البلاد قبلوها/ وعيون الأولاد خذلوها/ وعيوني أنا نسيوها/ بس إحنا، ما مننسى". نحن نعيش في العالم الّذي تُرِكَ لنا، وهنا أعبّر عن شعوري بخيبة الأمل من هذا العالم ومن الجيل الّذي بناه، من الأفكار والبنى المجتمعيّة والتنظيميّة الّتي تؤثّر في حياتنا اليوميّة بشكل دائم.

 

فُسْحَة: تعدّد الأغنية مجموعة من الأوامر الجندريّة والمجتمعيّة وحتّى العمليّة المتعلّقة بالعمل، وتؤسّس للفصل مثلًا بين الحبّ والزواج، ولضرورة العمل نهارًا، وبكلمات أخرى، للجسد الطيّع المنتج، وتحديدًا، الجسد الأثنويّ... هل يمكن أن تحدّثينا أكثر عن هذه الأوامر؟

هيا: هو ما تكلّمت عنه؛ فالأغنية تتحدّث عن السلطة الاستعماريّة والسلطة المجتمعيّة الأبويّة، وعن عدم انفصال الشخصيّ عن السياسيّ وترابط المنظومات القمعيّة مع بعضها البعض، فمثلًا قد أبدأ بالغناء من مكان شخصيّ حميميّ لكنّه سرعان ما يتطوّر ليرتبط مع الحالة الجمعيّة الفلسطينيّة وما تخضعه له من بنى قمعيّة مختلفة.

 

فُسْحَة: ثمّة قصّة وراء أغنية «فتنة وياسمين»، فمَن تكون جدّتك باسمة الّتي كتبت الأغنية لها؟

هيا: كتبت «فتنة وياسمين» لجدّتي باسمة بعد وفاتها، وهي أشبه برثاء شخصيّ. كانت جدّتي باسمة بمثابة أمّي الثانية، هي الّتي ربّتني وكنت بجانبها حتّى لحظة وفاتها، وفي كلّ مرّة كنت أزورها كنت أحضر لها زهرة الفتنة، وقد وضعت زهرتين فتنة على صدرها عندما توفّيت. أعتقد أنّها أكثر أغنية صادقة في الألبوم، لم أكن بحاجة لأفكر بكلماتها أو ألحانها، بمجرّد أن جلست وبدأت العزف شعرت وكأنّ الأغنية موجودة أصلًا في مكان ما في الكون وما كان عليّ فعل شيء غير أن أكشف عن وجودها.

 

 

فُسْحَة: لماذا «عشتار»؟

هيا: أوّلًا لأنّها كشخصيّة دائمًا ما أثارت أسئلة حول الجندر والجنسانيّة، ثمّة في «عشتار» سيولة معيّنة من حيث كونها إلهة الحبّ والجمال والجنس؛ فهي إذن تحتوي على كلّ هذه المساحات الّتي كنت أخاف الحديث عنها بشكل صريح في السابق. تمدّني عشتار بالقوّة لأتكلّم عن الأشياء بوضوح، هي الشخصيّة الّتي فيها الإلهيّ لكن أيضًا الأرضيّ، فهي تحبّ أن تدخّن وتشرب وأن تُحِبّ وأن تُحبَّ، لكنّ أكثر ما تحبّه هو حرّيّتها. هذه شخصيّة عشتار الّتي مدّتني بالقدرة على الوضوح، إضافة إلى ما تنطوي عليه من رموز أسطوريّة.

 

فُسْحَة: أريد الحديث عن العلاقة المضطربة بالمكان في أغنية «بلدي»؛ فهي من جهة تكشف عن حالة اغتراب مجتمعيّة ونفسيّة، ومن جهة أخرى تصرّح برغبة في انتزاع اعتراف أو قبول من المكان بالذات...

هيا: علاقتي مع المكان مركّبة وعميقة، فمن جهة أشعر بالحاجة إلى استعادة المكان، خاصّة عند الحديث عن المدينة الفلسطينيّة في ظلّ محاولات محوها وتجريدها من هويّتها الفلسطينيّة في ظلّ الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948، ومن ناحية أخرى ثمّة بحث في العلاقة مع المدينة، وتلك العلاقة شديدة التركيب لأنّ المدينة تتحوّل على المستوى الشخصيّ والاجتماعيّ إلى ناس، أي أنّ بلدي هي الناس الّذين أعرفهم ويعرفونني وأتعامل معهم بشكل يوميّ، والعلاقة المضطربة بالمكان هي بالأصل علاقة مضطربة مع ساكنيه.

 

فُسْحَة: هل تشعرين بالاغتراب في ما بينهم؟

هيا: أشعر باغتراب أقلّ هذه الأيّام، لكن أجل، أشعر أنّني غريبة قليلًا، وقد بدأت أشعر بالغرابة منذ فهمت أنّه ليس ثمّة ما هو طبيعيّ. أشعر باغتراب لاختلافي الاجتماعيّ والسياسيّ والجندريّ، ويتفاقم هذا الشعور بالاغتراب مع أحداث العنف الأخيرة – العنف الّذي تتعرّض له المجموعات أو الشخصيّات الكويريّة – وقد فهمت أنّنا نحاول بناء أماكن ضيّقة وصغيرة في القلب من هذه العواصف الّتي نعيشها وفي القلب من المدن المجبولة بالعنف والخوف، وفي تلك الأماكن أشعر أنّ ثمّة من يشبهني ويشاركني تفكيري ومشاعري؛ فالعلاقة مع المدينة إذن تتلخّص في محاولتي الدائمة لبناء هذه الأماكن الضيّقة الّتي أشعر داخلها بالقليل من الأمان والتشابه.

 

فُسْحَة: إلى أيّ مدى ضيّقة هذه المساحات الّتي تتحدّثين عنها؟

هيا: ضيّقة جدًّا، وفي كلّ مرّة يبدو أنّ ثمّة محاولة اختراق ما للخروج من هذه المساحات إلى الحيّز العامّ يكون ثمّة موجة من العنف المضادّ كما يحدث في الأسابيع الأخيرة. ثمّة شعور وهميّ بالأمان داخل هذه المساحات، ذلك أنّها ليست آمنة بالفعل، ونحن لا نتحدّث عن نشاطات تحدث في أماكن عامّة، بل نتحدّث عن أماكن هامشيّة، ومع ذلك فهي ليست آمنة، ومن السهل اختراقها بشكل عنيف دون أن أيّ حماية رسميّة أو غير رسميّة. من ناحية أخرى ثمّة نزعات لجلب هذه الأصوات إلى الحيّز العامّ بشكل واضح، وهذا ما أغنّي عنه في أغنية «قالولي»: "إحنا الجيل اللي بحاسب ع جروحنا اللي عم تنزف بروحنا من وقت أجدادنا/ وإحنا ما مننسى". وقد غنّيت هذا المقطع عن حراكين هما حراك «القوس للتعدّديّة الجنسيّة والجندريّة» و«حراك طالعات» في عام 2019، عندما خرجت بعض المجموعات الكويريّة إلى الحيّز العامّ الخاضع للاستعمار الصهيونيّ ولمنظومة القمع الأبويّة، بأجسادهم وبصرخاتهم الّتي أرادت أن تعزّز وجود هذه المجموعات والتوجّهات في الحيّز العامّ. 

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.